يتردد صدى صوت فرقة موسيقية من المسرح الكبير لجامعة الموصل والذي جرى تجديده حديثاً. وفيما لا تزال بقايا المدينة متضررة، تخرج ألحان الفرقة الموسيقية، فيبدو المشهد جلياً بأن تنظيم داعش ومشاهده الإجرامية غابت عن المدينة.
تلك الموسيقى المنبعثة من المسرح الكبير، تعزفها فرقة وتر نينوى الشبابية. وهي من بنات أفكار قائد الفرقة محمد محمود. تكمن رؤية الفريق في استثمار الموسيقيين الموهوبين الذين كانوا يعزفون في السابق معاً ضمن مجموعات صغيرة في الكنائس والمراكز الشبابية، وجمعهم في فرقة موسيقية تعكس التعددية الثقافية الثرية لمحافظة نينوى وعاصمتها الموصل. وضم الفرقة الموسيقية اليوم حوالي 50 موسيقياً مسلماً، مسيحياً وآشورياً، كما تشكل النساء نصفهم تقريباً.
وفي حفلتها مؤخراً على خشبة مسرح جامعة الموصل، تجمّع ما يزيد عن ألف شخص لمشاهدة الفرقة الموسيقية والاستماع إلى معزوفاتها. كما حضر الحفلة كثيرون عبر الانترنت، لاسيما من مناطق عدة حول العالم، مثل كندا. جمعت الحفلة الناس من مختلف الأطياف العرقية، والدينية احتفاءً بالإبداع والتناغم والوحدة. فخلال احتلال تنظيم داعش، كانت الموسيقى محظورة. وعندما طرد المتطرفون من المدينة، كانت الموسيقى أول ما عاد بقدرتها الفعالة على جمع الناس وبناء الجسور بين المجتمعات. ولعل ذلك كان أحد أسباب حرص تنظيم داعش على اجتثاث جذوة الموسيقى في مسعى لزرع التفرقة والعداء بين المجتمعات المحلية في “خلافته” المزعومة.
يتطلب لمّ شمل المجموعات المتنوعة داخل مجتمع ما بعد النزاع تخطيطاً كبيراً. هناك الكثير من الحواجز المادية والهيكلية التي من شأنها أن تعيق تقدم أو حركة المجموعات العرقية المختلفة على نحو يتطلب في الغالب مزيداً من المساواة. لقد تصدى الفريق المنظِّم لذك، عبر إجراء تدريبات في أحياء مختلفة وتوفير حافلة تدريبات لجلب الموسيقيين المقيمين في مناطق نائية لحضور الدروس الأسبوعية وبناء المهارات وورشات التلحين التي أقامتها الفرقة. مما خلق فرصاً منتظمة لترسيخ العلاقات بين المجموعات على اختلاف معتقداتها من خلال إنشاء صداقات وتطوير اهتمامات مشتركة.
تمثل الموسيقى نقيض كل ما يرمز إليه تنظيم داعش بسياسته المقسِّمة والانعزالية. لقد شهدت التجمعات الكبيرة خلال أيام تنظيم داعش العنف والموت والدمار. إذ كان الناس يجتمعون في الملئ لكي يشهدوا الإعدامات أو ينهمر عليهم وابل من رسائل الكراهية والخطاب المتطرف والمركز على فرض طريقة عيش تضر وتقصي الآخر.
لكن، من خلال الموسيقى، تقدم فرقة وتر أداة لخلق لغة انتماء عالمي يتجاوز مداه كافة المفاهيم الثقافية، واللغوية والاجتماعية. وتوظف الفرقةُ الموسيقى لتشكيل هويات جديدة جامعة بين موسيقاها وجماهيرها، مشجعة على ثقافة السلام والتعافي لسكان نينوى ومحتفية بالمزيج العرقي المتعدد للمحافظة.
إن هذا العدد الغفير من الناس الذي حضروا واستمتعوا بأداء الفرقة الموسيقية، ليس مثالاً صارخاً عن إعادة بناء مدنية فحسب، بل يعكس شهية مدينة ظلت ترزح تحت الصمت المفروض عليها لسنوات من الاحتلال. لتسخِّر بذلك قوة الموسيقى في إعادة إحياء العلاقات واللحمة المجتمعيتين بعد فترة سادتها الكراهية. مساحات كانت معاقل تجنيدٍ لصالح تنظيم داعش – كجامعة الموصل – عادت إلى حالها الطبيعية، من خلال مبادرات إعادة الإعمار المحلية والدولية للتحالف. مراكز اجتماعية وثقافية يلتقي فيها الناس، ويندمجون ويدرسون سوية. وتوفر هذه المساحات لكل من الموسيقيين والجماهير الموقع الأمثل من أجل الترويج للتعافي المجتمعي، وبناء السلام والتغيير الإيجابي النابع من الذات.
الفرقة الموسيقية ليست الحل الوحيد لتحقيق التغير الاجتماعي المطلوب في الموصل. لكنّ مبادرات من هذا القبيل، تمثل خيطاً يعيد نسج وربط أواصر المجتمعات المحلية التي فرقها النزاع، عبر توفير بيئات للشباب لكي يستمعوا، ويُسمعوا، ويتعاونوا، ويستكشفوا ويصهروا هوياتهم الفردية والجماعية سويةً ضمن بوتقة رؤية جديدة للمستقبل. وهي تدعم التعافي الجماعي والفردي للجروح التي سببها تنظيم داعش والمظالم الممنهجة التي أفرزت المتطرفين في المقام الأول. ولا يبقى الآن سوى تقديم الفرقة الموسيقية لحفلتها الثانية.