كانت القرى الصغيرة شمالي منطقة الباب في ريف حلب حتى نهاية عام 2014 خارج حسابات كافة القوى المتصارعة في سوريا. استخدمتها فصائل المعارضة حتى ذلك الحين فقط كنقطة عبور لها لإيصال الإمدادات من ادلب إلى شرق حلب، حينها كان يتم اتخاذ طريق طويل بحدود 180 كيلومتراً يمر بقرى صغيرة لم تكن مطمعاً لأي فصيل.
مع خريف 2014 اجتاحت موجة من المقاتلين يحملون الرايات السود، أشكالهم مخيفة، ويرتدون أثواباً قصيرة ويهتفون بشعارات دينية.
___
مع بداية دخول المقاتلين على عرباتهم ومع هتافات “التكبير” هرع الأطفال الثلاثة إلى أمهم فاطمة يبشرونها بقدوم “العيد” إذ أن تكرار التكبيرات لا يكون عادة إلا في عيدي الفطر والأضحى!.
كانت فاطمة (40 عاماً) قد نزحت مع زوجها (55 عاماً) إلى قرية الكسارة شمالي الباب بعد تعرض حي الحيدرية إلى قصف جوي من طائرات النظام. وكان منزلهم المستأجر يقع بالقرب من دوار الحيدرية. حدثت المجزرة الأولى في أواخر عام 2012. المجزرة الثانية حدثت في المكان نفسه في أواخر 2013. شاهدت فاطمة أشلاء متطايرة، وتعثر قدمها بشيء طري وملتصق، كان ذراع شخص تطاير مسافة أكثر من 50 متراً من موقع القصف!.
نزحت العائلة إلى الشمال حيث يقيم أقرباء لفاطمة التي تزوجت في سن متأخرة بعد وفاة زوجة الرجل الذي تزوج فاطمة بشكل سريع كما هي عادة الأزواج الأرامل، وأنجب منها ثلاثة أطفال أكبرهم سناً يبلغ عشرة أعوام وطفلتان في السادسة والثالثة.
مع دخول تنظيم داعش إلى القرية الكردية الصغيرة التي لا يتجاوز عدد بيوتها 40 منزلاً دخلت حياة فاطمة مرحلة جديدة أكثر قساوة. فهي كونها من تدير العائلة فعلياً، في ظل تدهور صحة زوجها، كانت تتصدر المسؤولية عن أي “انتهاك” لقواعد داعش.
تقول فاطمة التي تقيم حالياً في مخيم بإقليم كردستان إنه في الأيام الأولى لم يكن التنظيم سيئاً. حتى أنه فاجأ الأهالي بمساعدات غذائية وفيرة ورعاية شؤون المحتاجين. في البداية حاولوا الحصول على أسماء المتعاطفين مع من أسموهم “الملاحدة”. وتضيف: “لم أكن أعرف معنى هذه الكلمة لكن فهمت أن المقصود الأحزاب الكردية”.
كان عدد الشباب في القرية قليلاً، حيث هاجر معظمهم إلى تركيا أو إقليم كردستان. وكذلك نصف العائلات المقيمة في القرية هي عائلات نازحة لها صلات قرابة فيها. أقامت فاطمة مع عائلتها داخل مدرسة القرية التي أغلقت لعدم وجود معلمين. كانت الإقامة في المدرسة تسهل من تلقي المساعدات، فهي الوجهة الأولى ومركز التجمع. التغيرات الأولى التي طرأت على حياة القرية تمثل في اللباس الأسود السميك الذي يغطي
كامل الجسم وتقييد لحركة النساء بالتدريج. في البداية كانت على شكل تنبيهات بأن لا تخرج المرأة وحيدة إلى الشارع، ثم تطور إلى فرض خروج محرم معها. ونظراً لقلة عدد الرجال في القرية، فقد بات خروج طفل ذكر مع أمه مؤدياً للغرض.
طلب عناصر من التنظيم خروج العائلات المقيمة في المدرسة إلى منازل خالية، وفي حال عدم توفرها، سيتم توزيع أفرادها على منازل عائلات أخرى. اعترضت فاطمة وبررت ذلك باعتيادهم الحياة في المدرسة، وهي خالية وفيها سبعة غرف كبيرة مع ممر واسع للعب الأطفال. أخبر العناصر جميع العائلات أن المكان سيتحول إلى مقر لتعليم الشريعة، وإخلاء المدرسة مفروض على الجميع.
حاول الناس التأقلم مع داعش قدر الإمكان تجنباً للعقوبات التي كانت قليلة، لكن تأثيراتها دفعت بالعديد من العائلات إلى النزوح مرة أخرى.
تعرضت فاطمة إلى عقوبة غيرت حياتها وكانت بداية تخطيطها لرحلة الخلاص إلى خارج سوريا. تقول فاطمة إنها لم تعد تتقبل فكرة أنها في مأمن من هذا التنظيم طالما بقيت في سوريا.
حين أمرها التنظيم بترك المدرسة أقامت فاطمة في منزل عائلة من أقربائها، وبات في المنزل 8 أطفال. هذا العدد يجعل من الصعب السيطرة على الأطفال طيلة الوقت. حدث ذات مرة أن تمكنت طفلتها الصغيرة من فتح الباب الخارجي للدار وكانت بدون ملابس. هرعت فاطمة إليها على الفور ولم يستغرق وقوف الطفلة عند الباب سوى ثوانٍ معدودة. من سوء حظها أن عنصراً من داعش كان قد لمحها.
بعد دقائق يأتي عنصر ويطلب ولي أمر الطفلة. ارتدت النساء العباءات السوداء وتحدثت فاطمة من وراء الباب أن والد الطفلة مريض وأنها المسؤولة عنها. قام الداعشي بتوجيه محاضرة لها ونبهها أنه في المرة المقبلة ستكون العقوبة قاسية.
يتبع التنظيم أسلوباً استنتجته فاطمة. فحين يتم التغاضي مرة عن “انتهاك” للقواعد، يكون هناك شيء ما يحتاجونه. بعد يومين فقط من واقعة الطفلة، جاء عنصران إلى المنزل وطلبا أن ترسل فاطمة ابنها البكر (10 أعوام) إلى الدورة الشرعية. لم يكن هناك خيار سوى إرساله.
تروي فاطمة كيف كان ينظر عناصر التنظيم إلى الرجال والنساء مقارنة بالأطفال. “كنا بالنسبة لهم بشراً بلا فائدة.. ولا أمل يرتجى منا. لم تكن لديهم ثقة بالأهالي حتى مع الالتزام بمبادئهم. كان مشروعهم الأطفال. ونجحوا بشكل ما. في أحد الأيام بعد أسابيع من التزام ابني بالدورة الشرعية، خاطبني بأني منافقة!. استفسرت منه كيف كوّن هذه الفكرة. فقال إن طاعة الأهل على الضلالة حرام”.
بدأت فاطمة تتوجس من التغيرات على الطفل. ولم تخفي خوفها أيضاً عليه ومنه في الوقت نفسه. بدأت تفكر في كيفية قطعه عن دروس داعش فبدأت بإرساله لمعاونة خاله في الحقل، وبات يتغيب عن بعض الدروس.
كانت واثقة أن طفلها سيخبر عناصر داعش بالحقيقة وباتت على يقين أن عقاباً سيطالها، وحدث ذلك سريعاً حين خرجت طفلتها الصغيرة أمام باب المنزل، ولم تكن عارية، بل يسترها فستان إلى أسفل ركبتيها.
ترجح فاطمة أن إطلال باب المنزل على الشارع القريب من المدرسة سهل مراقبتها. سرعان ما طرق عنصر من داعش الباب وطلب الأم. وبخها بشدة على تركها الطفلة تخرج بدون ملابس!. وطلب منها البقاء في البيت ريثما يقوم باستدعائها.
استغرق الأمر بضع ساعات حين جاءت امرأتان إلى المنزل وأخذتاها إلى “المقر”. قبل هذا اليوم لم يكن هناك نساء لتنظيم داعش في سلك العمل. زوجات المقاتلين كنّ يلزمن بيوتهن التي سكنوا فيها حديثاً. هاتان المرأتان جاءتا من مدينة الباب خصيصاً لتنفيذ العقوبة.
ارتبكت فاطمة كثيراً وشعرت بمزيج من الخجل والرعب حين قربت منها إحدى السجانتين أنفها ووضعتها داخل فمها. “كانت تتحقق ما إذا كنت أدخن. لم أعرف النتيجة!”.
قامت المرأتان بنزع ملابسها لكشف ظهرها لتنفيذ عقوبة الجلد. 20 جلدة كانت كافية ليملأ صراخ فاطمة المكان. تقول إن كل ضربة هزت روحها من الألم. تهوي الجلادة بالكرباج بكل قوة بضربات مليئة بالحقد.
بعد العقوبة قامت إحداهن بشدها من شعرها وسحلها بهذه الطريقة إلى غرفة مجاورة. هناك قدمت لها سجانة داعش عباءة سوداء جديدة ثم تفوهت بجملة يلخص كل ما حدث معها: “كل الأطفال للدولة.. فهمت؟”.
نظرت إليها فاطمة وردت بابتسامة: ” الأطفال للدولة؟. الدايم الله”.
أيام قليلة مضت وكانت وجهة فاطمة مع عائلتها إلى القامشلي .. ومن هناك إلى إقليم كردستان.
تقول فاطمة إنها ربحت مستقبل أطفالها.