“بينما كنا نتحضَّر للعام الأخير من المدرسة الثانوية انقلبت حياتنا رأساً على عقب في غضون ليلة وضحاها.
احتل داعش مدينة الموصل عام 2014، وخيمت حالة من الصدمة، والرعب والذعر. لم يكن أحدٌ يعرف ماذا يدور وما الذي سيحدث! لم نتمكن من مغادرة المدينة، لذلك اضطررنا للعيش تحت وطأة الكارثة بأكملها حتى عام 2017.
حينئذ كنت في مدرسة الطلبة الموهوبين أحاول التركيز على دراستي للشهادة الثانوية متجاهلة الفوضى التي وقعنا فيها. لكن مدرَستي كانت مخَتلطة (ذكوراً وإناثاً) وكان هذا ممنوعاً وفق عقيدة داعش! لذلك وبطبيعة الحال فور اكتشافهم ذلك جاؤوا ليهددونا وأجبروا البنات على مغادرة المدرسة والالتحاق بمدرسة “مخصصة للبنات فقط”.
كان وقع ذلك كارثياً على طالبة مجدَّة ومجتهدة تخطط للحصول على أعلى درجة ممكنة في شهادة الثانوية لمدرسة الموهوبين! تمكنت من إكمال السنة في مدرستي “خِلسة” ومن تقديم الامتحان الأخير خلال أوقاتٍ عصيبة جداً لا زلت أذكرها على نحو جلي. كنت أجلس مرتدية قفازات سوداء، ومغطّاة بالكامل بملابس حالكة في درجة حرارة بلغت 44 درجة مئوية. كنت أتصبب عرقاً وأرتعش من الإعياء وإحدى عيني ترمق ورقة الإجابة والعين الأخرى تحدِّق في باب الغرفة خوفاً من احتمال اكتشاف أحد عناصر داعش أننا نقدم الامتحانات خارج منظوماتهم ضمن إطار وزارة التربية في بغداد. لقد كان ذلك عذراً كافياً لهم لقتلنا على الفور.
أنهيت امتحان الشهادة الثانوية عام 2015 بمعدل قياسي بلغ 94.3 بالمئة وكنت أنتظر تحرير الموصل لمصادقة شهادتي والتي استغرقت سنتين تقريباً.
لقد كان وقتاً عصيباً جداً إذ لم أغادر المنزل وكنت أعاني من العزلة الاجتماعية، والكآبة واضطراب القلق. لكني كنت أحاول عدم الاستسلام لكل هذه الأشياء، فسابقت الزمن عبر حضور دورات على الإنترنت في مجالات المعلوماتية الإحيائية وعلم بيانات الجينوم ودورات أخرى. إلى أن حجب داعش اتصال الموصل بالإنترنت.
التحقت بدورة في اللغة التركية وأنهيته.ا لكني احتجت إلى البحث عن سبب آخر لكي أستطيع مقاومة الإجهاد النفسي. في عام 2016، لم يكن بمقدور التلاميذ الدراسة أو الذهاب إلى المدرسة، وكنت أقول في قرارة نفسي أنه ينبغي أن أساعد هؤلاء الأطفال التعساء الذين كان مستقبلهم يضيع من بين أيديهم! لم أستطع الوقوف متفرجة فقررت تأسيس مدرستي الخاصة في غرفتي! لتعليم أشقائي الأصغر مني وأبناء أقربائي الآخرين في السر. كنا نقوم بالفروض المنزلية، والتجارب والامتحانات في المنزل وتمكنت من إكمال المنهاج المقرر بسعادة وكأن ذلك كان الهبة التي أعطتني الأمل في الحياة في وقت ساد فيه الموت.
وفي عام 2017، تم تحرير الموصل من داعش، وقصدت أنا وعائلتي بغداد لمصادقة درجتي في الشهادة الثانوية ولكن لم يتسنَّ حدوث ذلك، حيث طلبوا مني الالتحاق بالمدرسة من جديد وأن أخضع لامتحان الشهادة الثانوية مرة أخرى!
لم يكن لدي الوقت الكافي، لذلك كالعادة، كافحت الإرهاق واضطراب الكرب التالي للصدمة عقب معارك التحرير. واستوحيت الإلهام من نفسي وأصدقائي، وقمنا بدعم بعضنا البعض لكي نبذل أداءً أفضل تحت الضغط.
أنهيت شهادة الدراسة الثانوية بمعدل قياسي آخر بلغ 96.87 بالمئة محتلة المركز الثاني على مدارس الموهوبين في العراق!
بالرغم من أنه ليس سهلاً نسيان تلك الأوقات الصعبة. لا تزال الآثار الجانبية لتلك اللحظات تقضُّ مضجعي رغم مضي ثلاثة أعوام. لكن، لا بأس! فالتعافي ليس عملية تسير كخط مستقيم. على الأقل لقد نجوت من الموت! وأنا فخورة برؤية الأطفال يستأنفون حياتهم المدرسية بنجاح. الآن أنا طالبة طب في السنة الرابعة وبقيت على قيد الحياة لكي أروي هذه القصة.”