خلافا للخرافة، إن الإرهاب ليس زهيد الثمن. إن التمويل هو شريان الحياة للجهات الفاعلة الخبيثة وغالباً ما يكون العامل الحاسم الذي يُترجمُ النية بارتكاب ضرر إلى عمل ملموس ومميت.
وتعكس مصادر هذه الأموال وتراكمها وتحويلها تعقيد الاقتصاد العالمي المترابط والمتشابك. وعلى هذا النحو، فقد تم فتح خطوط مواجهة جديدة للتصدي وإيقاف مجرى التنفس النقدي للمنظمات المتطرفة العنيفة ولاسيما من خلال تشريعات تنظيمية وإجراءات إدارية.
وعلى العكس تماماً من الطبيعة الحركية للعمليات العسكرية، فإن الحرب من أجل ضمان اختناق متواصل لقدرة داعش على الظهور يكمنُ في ميدان القطاعات المالية الرسمية وغير الرسمية حيث يبدو هذا الميدان أمراً بسيطاً ولكنه ليس أقـلُ تحدياً. في حالة وجود الغموض، تكمن إمكانية الاستغلال.
تحديات مواجهة تدفقات الإيرادات الإرهابية
تعد مواجهة تدفقات إيرادات داعش هي المرحلة الأخيرة في تاريخ قصير ولكنه ديناميكي لمكافحة تمويل الإرهاب. في طليعة الجهود هي مجموعة العمل المالي (فاتف) التي أنشأتها مجموعة السبع في عام 1989 لمكافحة غسل الأموال وتمويل المخدرات في البداية، وحوّلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر مجموعة السبع إلى المجموعة الرئيسية المكلفة بمكافحة تمويل الإرهاب في جميع أنحاء العالم.
بالتوازي مع هذا التقدم التنظيمي، تغيرت أيضاً طبيعة التمويل الجهادي الحديث. ففي سنواتها الأولى خلال الغزو السوفيتي لأفغانستان والصراع في البلقان، تم نقل الأموال من خلال أنظمة مصرفية رسمية مع القليل من التدقيق. وعندما بدأ إغلاق هذه القنوات بتدابير الكشف عن الاحتيال وضوابط أكثر صرامة وذلك في أواخر التسعينيات وبداية القرن الحالي، تم تحويل الأموال إلى وسائل غير رسمية أكثر غالبًا ما تكون من خلال أشخاص لنقل الأموال مع تفضيل للتفاعلات “البشرية”. وبالتالي، أصبحت الأنظمة اللامركزية مثل الحوالة، وهي نظام قائم على الثقة يعتمد عليه الملايين من الناس كل يوم للعيش وتجاوز القنوات الرسمية الأكثر تكلفة والأبطأ والقيود، طريقة أساسية لتمويل أنشطة داعش.
يكمن التحدي المتمثل في تقييد الموارد المالية لداعش في خصوصيتها وحجمها. وباعتباره كياناً يحتفظُ بالأراضي، فقد قدم آفاقاً مختلفة تماماً عن أيديولوجية القاعدة.
فعن طريق الوصول إلى مصادر موارد متنوعة ومربحة من الإيرادات، بدءاً من إنتاج النفط إلى غنائم الحرب والسيطرة على مصرف الموصل المركزي، تم بشكل جزئي تمويل نفقات داعش الضخمة من مصادر الاقتصاد الكلي. ومن العوامل الرئيسية لتراكم السيولة أيضا هي أعمال النقد المتداول لداعش.
إن إحدى الطرق الرئيسية التي ضاعف بها داعش الفوائد من الأموال النقدية التي اكتسبها هي استخدام أطراف ثالثة، وسطاء، لإعادة إدراج الأموال المستولى عليها ضمن النظام المصرفي العراقي في بغداد، ثم استغلال الفرق بين أسعار الصرف بالجملة والتجزئة ضمن مَزادات القطع الأجنبي في العراق. وقد أدى ذلك إلى ربح كبير تم تحويله بعد ذلك إلى أراضي التنظيم عبر شبكات الحوالة.
إن هذا المزيج من الاستيلاء غير المعقد على النقد وتراكم الأرباح عن طريق النظام المالي الرسمي والاستخراج من خلال شبكات غير رسمية، وكل ذلك في غضون فترة زمنية قصيرة، يسلط الضوء على بعض الصعوبات التي تواجه الهيئات المكلفة بتطبيق القانون.
بالإضافة إلى ذلك، بدأ داعش في صك العملة وتعميم عملته الخاصة بهدف انتزاع الليرة السورية والدينار العراقي والدولار الأمريكي والعملات الأجنبية الأخرى من أيدي السكان المدنيين الذين احتلوهم واستبدال هذه النقود بعملته التي لا قيمة لها. ومن خلال إجبار المدنيين على دفع الضرائب والغرامات والفواتير بعملة داعش، ضمن التنظيم فعليًا أن تعود عملته إلى صندوقه المركزي مما يزيد من إيرادات التنظيم على حساب السكان الذين يزعمُ التنظيم بأنه يمثلهم.
لقد تم استكمال هذه العمليات كبيرة الحجم من سلب الأموال بالتلاعب بمصادر التمويل الصغير فقد تم تشجيع المؤيدين ضمن الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، على ارتكاب الغش في الفوائد والاحتيال الضريبي وتقديم طلبات قروض احتيالية وارتكاب سرقة صغيرة قبل تحويل الإيرادات من خلال الحوالة وخدمات تحويل الأموال. لقد تم إقناع المؤيدين بتزييف المفاهيم الدينية مثل “تجهيز الغازي” حيث يمكن لأولئك الذين لا يستطيعون شن الجهاد بشكل شخصي أن يحصلوا على شأن مماثل من خلال تمويل القضية.
تمويل داعش حالياً
بعد الهزيمة الميدانية لداعش وفقدانه للضرائب وإيرادات النفط، يأملُ التنظيم في تمويل عمليات التمرد المنتشرة في سوريا والعراق وفي أماكن أخرى من خلال طرق التمويل الصغيرعلى نطاق ضيق.
ونظراً للتكيّف الخاص وتعقيد آليات تمويل داعش والجمع بين الأساليب المركزية واللامركزية في القطاعات الرسمية وغير الرسمية فإن استجابة التحالف الدولي لمحاربة داعش قد تطلبت أن تكون شاملة وجامعة.
لقد تصرفت الدول الشريكة من جانب واحد وثنائي ومتعدد الأطراف بطريقة لا هوادة فيها حيث تعمل معاً في حملة لإغلاق خيارات داعش باستمرار.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك إطلاق شبكة الحوالة الكبرى والسرية في إسبانيا في عام 2015 والتي كانت تتكون من 300 من دور الحوالات التي تستخدم متاجر الجزار ومحلات البقالة ومراكز الاتصال لتمويل رواتب الجهاديين الإسبان في سوريا. لقد عززت حكومة العراق من قوة الأنظمة المتعلقة بتحويل الأموال وفككت السويد حلقة احتيال ضريبية تضمنت نجل زعيم الدولة الإسلامية الراحل في الموصل وأنهت الدانمارك عمليات الاحتيال للحصول على الإعانة الاجتماعية التي كانت تدفع للمقاتلين الإرهابيين الأجانب، أما الولايات المتحدة فاستخدمت العقوبات لاستهداف الوسطاء الماليين في شرق إفريقيا.
وعلى الرغم من أن هذه الأمثلة بصورة مجتمعة قد أهلكت عمليات داعش إلا أن داعش هو جهة فاعلة من غير الدول تعمل بشكل عابر للحدود وبطريقة لامركزية ومتفرقة وتعمل بنشاط في الأماكن الآمنة غير الخاضعة كلياً لسلطة الدولة ويسكنها أناس فقدوا أملهم في حكوماتٍ عديمة الجدوى. ومع وضع ذلك في الاعتبار فإن تعددية الأطراف وتعاونها ضمن التحالف الدولي هو ليس فقط الكيان الرئيسي لمحاربة داعش بل هو المجموعة اللازمة لهزيمة هذه الشبكة.
إن طبيعة النظام المالي العالمي برمته هي أنه إذا كان هنالك مكان متاحٌ للاستغلال فسيتم توفير مساحة للإرهاب وهذا الأمر ينقل القضية إلى ميدان التطوير حيث أن القدرة على تتبع عائدات الإرهاب وضبطها ومنعها يتطلبُ حقاً مؤسساتٍ مالية قوية ونزيهة تعمل على قدم المساواة في جميع المناطق التي تجعل من الأنظمة غير الرسمية غير مؤثرة لأي شخص وليس للإرهاب فقط.
إن الاستخدامات الجديدة للعُملات المشفرة هي رسالة تذكير في الوقت المناسب بهذا الخصوص. وعلى هذا الأساس، فمن الواضح أن التفاهمات المتبادلة التي تم التوصل إليها أثناء القتال الميداني ضد داعش يجب أن تتجاوز ميدان المعركة لتشمل بشكل فعلي وقف شريان الحياة المالي لداعش.
“هذه المادة جزء من حملة أوسع تسلط الضوء على جهود التحالف الدولي في مكافحة التمويل. يمكنك متابعة الحملة على توتير عبر #حظر_تمويل_داعش، أو على موقع التحالف الدولي باستخدام هذا الرابط.”