ظهرت الحضارة الإنسانية لأول مرة منذ آلاف السنين في الشرق الأوسط القديم. لم يكن هناك مكان أكثر مركزية لهذا الربيع الثقافي من نينوى في شمال العراق. لطالما عُرٍفَت نينوى تاريخياً بأنها مهد الحضارة، من بين أشياء أخرى كثيرة٬ ولقد كانت المقر الملكي للملوك الآشوريين القدماء. يتم الاستشهاد بالملوك الآشوريين عند التحدث عن تاريخ نشوء واحدة من أوائل الإمبراطوريات الحقيقية في العالم والإرث الثقافي الذي تركته٬ وهو إرث يحكي قصة التعايش السلمي الذي استمر بين الناس ذوي الأصول المتنوعة في العراق لآلاف السنين.
تم إيقاف هذا الربيع الثقافي للأسف بطريقة قاسية في عام 2015، عندما طمس تنظيم داعش الكثير من حواضر التراث الثقافي الشهيرة في نينوى، وأزال بشكل غير قانوني القطع الأثرية من الأراضي التي تخضع تحت سيطرته٬ من أجل تمويل إرهابهم وجهودهم الدعائية العالمية. في حين أنه من الصعب تحديد قيمة اتجار داعش بالآثار غير المشروعة على الصعيد العالمي، فقد قدرت قيمة البضائع المهربة من منطقة النبوك بغرب سوريا من 2013 إلى 2014 وحدها بـ 36 مليون دولار.
على الرغم من هزيمتها الإقليمية، تواصل خلايا داعش جني الأرباح من الاتجار بالآثار من خلال العمل على الإنترنت تحت ستار عصابات جريمة منظمة. ومن خلال شراء القطع الأثرية من المجتمعات الضعيفة والفقيرة في العراق وسوريا، بما في ذلك التكليف بنهب الآثار ذات الأهمية التاريخية، تدّعي داعش أنها جهة تعمل على التوظيف المحلي بشكل “شرعي قابل للتطبيق”. إلا أن النهب في العراق كارثة تؤثر على المجتمعات:
- اقتصادياً: يسرق الاتجار بالآثار الأصول الثقافية من بلد في أمس الحاجة إلى صناعة السياحة ونمو القطاع الخاص.
- سياسياً: كلما ازداد نهب التراث الثقافي، زاد حجم الفراغ الذي تملؤه جهات فاعلة غير حكومية وخبيثة تعمل لأجنداتها الخاصة، مثل الأنشطة الأخيرة المدعومة من إيران والتي جعلت الأوقاف العراقية المسلمة سلاحاً لتحفيز الهندسة الاجتماعية في شمال العراق.
- اجتماعياً: إن محو علامات الهوية التي تشهد على التاريخ الغني بالتنوع والتعايش السلمي في المنطقة يجعل المجتمعات الموجودة هناك أكثر انقساماً فيما بينها. حيث يتم عزل السكان المهمشين والنازحين وسلبهم القطع الأثرية التاريخية المرئية التي يمكن أن تدعم عودتهم إلى ديارهم مستقبلاً.
وفقاً لوزارة السياحة والآثار العراقية، هناك أكثر من 1791 موقعاً أثرياً و250 مبنىً تراثياً وعشرين مكتبةً تتطلب الحماية. لا يزال هناك العديد من المواقع الأخرى غير المكتشفة، لكن كثيراً ما يتم اكتشاف مواقع أثرية جديدة نتيجة لمشاريع بناء السدود في البلدان المجاورة، مما يؤدي إلى تغيير تضاريس العراق.
أفضل طريقة لمنع الاتجار بالآثار تبدأ من المصدر. لهذا السبب يدعم أعضاء التحالف الدولي جهود بناء القدرات المحلية الحيوية لوقف النهب والتهريب قبل إخراج القطع الأثرية من البلاد. وتشمل هذه الجهود مشروع العراق، وهو مشروع مشترك بين المتحف البريطاني ومجلس الدولة العراقي للآثار والتراث SBAH. المشروع يقوم بتدريب خمسين موظفاً على استخدام مجموعة متنوعة من التقنيات لاستعادة وإنقاذ القطع الأثرية.
يتم حفر المواقع الأثرية بشكل قانوني وحمايتها من النهب من خلال تعزيز قدرات الاستجابة الوطنية والمحلية. هذه المواقع المحفورة بشكل قانوني تعطينا فهماً أعمق للتاريخ٬ وتلقي الضوء على الأصول الثقافية الجديدة لتراث العراق. تشمل أنشطة الوقاية الأخرى حملة “تراثنا هو هويتنا” التي تدعمها الولايات المتحدة. وتهدف هذه الحملة التي بدأت بمبادرة مشتركة مع دائرة كهرباء نينوى إلى استرداد وحفظ وبناء الفخر المحلي بالإرث المهم في الموصل٬ وذلك من خلال إضاءة المواقع وتوفير صلة وصل بين المعالم الأثرية والمجتمعات المحيطة بها، لزيادة إحساس تلك المجتمعات بالملكية العامة لتلك المعالم الأثرية.
في كثير من الأحيان تنشأ المعالم الثقافية التي لا تقدر بثمن من أماكن الصراع أو الأماكن المتنازع عليها٬ ويتم استخدامها كسلاح داخل مسرح الحرب. وتتعاون جهات الأمن والتراث الثقافي على نحو متزايد لحماية هذه الأصول الثقافية التي لا تقدر بثمن. في عام 2019 أنشأ الجيش البريطاني وحدة حماية الممتلكات الثقافية، ووقع الجيش الأمريكي اتفاقية تعاون مع مؤسسة سميثسونيان لتدريب فريق من مسؤولي الحفاظ على التراث الثقافي. وتمارس قوات الأمن العراقية (ISF) دوراً مركزياً من خلال حماية المواقع المكتشفة حديثاً وتأمين الحدود مع سوريا. هذا ويحبط الجيش العراقي عمليات تهريب الآثار بالتعاون مع دائرة الآثار والسياحة في نينوى٬ ويوقف عمليات التمويل غير المشروعة بما في ذلك تلك التي ينظمها تنظيم داعش.
يعمل التحالف العالمي بجد، بما في ذلك فرقة كارابينيري الفنية الإيطالية واليونسكو، من أجل توفير تدريب تقني لقوات الأمن العراقية ودعم أمن الحدود وترميم المواقع التاريخية والتحف. زود التحالف قوات الأمن العراقية بالتدريب والمعدات لمنع التهريب والتحركات غير المشروعة٬ لا سيما عبر الحدود مع سوريا٬ حيث لا تزال الأفراد والجماعات الخبيثة مثل داعش مستمرة بمحاولة تهريب الآثار العراقية المسروقة لبيعها في الغرب.
قامت القوات العراقية بتأمين الحدود عبر استخدام تحصينات وأسلاك شائكة وكاميرات حرارية بعيدة المدى لاكتشاف الحركة٬ ومنع التهريب في أي من الاتجاهين. هذا النهج المتكامل على الأرض مدعوم بغطاء جوي للتحالف، مما يعطل أنشطة داعش ويمكّن قوات الأمن العراقية من حماية سيادة العراق.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ترميم المعالم الثقافية العراقية المهمة مثل متحف الموصل يقضي على بعض جهود داعش لمحو تاريخ المدينة المتنوع. وتدعو المبادرات المهمة التي يقودها المجتمع المحلي٬ مثل “المسابقة المعمارية الدولية لإعادة إعمار مجمع مسجد النوري” التي تنظمها اليونسكو٬ بقية المجتمعات في المنطقة للمساهمة في جهود إعادة الإعمار والتصويت لصالح القيام بتلك الجهود.
بالإضافة إلى كونه وسيلة لخلق وظائف مستدامة، فإن المشاركة المجتمعية في ترميم وإدارة المواقع الثقافية مثل مسجد النوري تساعد في حماية المواقع وتعزز التاريخ المشترك والهوية المحلية والفخر بالتراث. ومن خلال دعوة المواطنين للتصويت على طريقة الاستفادة من المساحات العامة المشتركة الموجودة حول هذه الآثار، تقوم المجتمعات ببناء روابط على الصعيد الشخصي مع هذه المواقع.
تبدأ الحماية في داخل الوطن، وذلك عبر إيجاد حلول محلية يقودها المجتمع. يعمل المتطوعون المحليون والمتخصصون في مجال التراث المحلي الآن جنبا ً إلى جنب، مسلحين بالوعي والمعرفة والمهارات اللازمة للحفاظ على الثقافة العراقية٬ وإنشاء صناعة تراثية مستدامة في العراق.
ما هي أفضل طريقة لهزيمة كراهية داعش للتعددية الثقافية من أن يزدهر اقتصاد نينوى من خلال تنوع عروضه الثقافية؟