كانت مريم الغنامي من هذه المجموعة المدنية المحاصرة. تقول هذه المرأة البالغة من العمر 57 عاماً إن الجميع كان خائفاً من التحرك بأي اتجاه. ففي حال التوجه إلى الأحياء الداخلية ستنتقل المعارك بعد بضعة أيام إلى هناك وسيتكرر الموقف نفسه. كما أن التقدم باتجاه قوات سوريا الديمقراطية سيعني الموت المحتم على أيدي قناصة داعش الذين يرصدون طرق العبور عن بُعد رغم انسحابهم من الحي. شهدت مريم مع من تبقى من عائلتها (ابن وزوجته مع حفيدين) قرابة أسبوعين من المعارك العنيفة. لكنها تحت حصار تنظيم داعش منذ ما يزيد عن 3 سنوات.
حين اقترب مقاتلو “سوريا الديمقراطية” من المنزل، هتف المدنيون لإرشادهم إلى المكان، وتحسباً لرد فعل من المقاتلين الذين يرتابون من عمليات انتحارية يلجأ إليها عادة تنظيم داعش بعد انسحابه من مواقعه.
تقول مريم إن الشكوك كانت تراودهم حول المعاملة التي سيتلقونها من “قسد”، خصوصاً في ظل الدعاية المضللة لتنظيم داعش وترويجه أن هذه القوات تقوم بقتل العرب على الهوية. لكن المجموعة العسكرية المتخصصة بإخراج المدنيين سرعان ما بددت هذه الشكوك بعبارات “الحمدلله ع السلامة يا طيبين”. وتم توزيع المياه على العائلات الستة على الفور ونقلهم سريعاً إلى الخطوط الخلفية للمعارك. تقول مريم إنهم طلبوا السماح لهم بالانتقال إلى قرية حاوي الهوى غربي الرقة. فتم إجراء تحقيق روتيني قبل توزيع العائلات.
تقيم مريم وعائلتها في منزل إحدى أقاربها في القرية الواقعة على ضفة نهر الفرات. هنا لديها فرصة لتحصي خسائرها جراء احتلال داعش للرقة في السنوات الثلاث الماضية. فقدت ابناً في الرابعة والعشرين من عمره، وابنة في السابعة عشرة من عمرها. كلاهما قتل. قتل الابن بداية سيطرة داعش على المدينة حين سادت فوضى كبيرة وقتل العشرات حينها. أما الابنة فبقيت قصتها غامضة. رفضت الأم مريم الكشف عن تفاصيل كاملة لكنها قالت إن الأمر متعلق بخطفها من أحد عناصر داعش الأجانب. ثم انقطعت أخبارها إلى أن تلقت اتصالاً من مكتب أمني للتنظيم باستلام جثة ابنتها. تنهمر الدموع من عيني مريم وتطلب تغيير الحديث.
تعبر مريم عن تفاؤلها بمستقبل الرقة بعد تحريرها. تقول إن مدينتها بحاجة إلى الكثير. فإضافة إلى الخراب الذي تركه داعش خلال سنوات حكمه، فإن الحرب غيرت ملامح المدينة “كل هذا يحتاج إلى إعادة بناء سريعة.. تعبنا من الحرب ولا نريد شيئاً سوى الاستقرار”.
لم تدخل مريم أي مدرسة منذ ولادتها. فهي لا تعرف القراءة والكتابة، لكن تنقلها مع زوجها من منطقة إلى أخرى لدواعي المعيشة مكنها من معرفة ظروف السكان وطبيعة الحياة في ريف الرقة. تقول مريم إن كل سكان مدينة الرقة لهم امتدادات اجتماعية في الريف. وتقول إنه حتى فترة سنوات مضت “لم يكن في الرقة سوى فندق واحد متواضع”، مشيرة بذلك إلى أن التآلف وحب الضيافة لأهل الرقة لا يترك مجالاً لنمو سوق الفنادق إلا في السنوات الأخيرة منذ عام 2000 حيث افتتحت عدة فنادق حديثة أبوابها.
وترى مريم أن علاقات القرابة الشديدة بين أهل الرقة سيسهل عملية إعادة البناء. لكنها ترتاب من مسألة تعبر عنها بالقول: “هناك قلة من أبناء الرقة التحقوا بتنظيم داعش. أتمنى أن لا يسبب ذلك مشكلة لعائلاتهم. فالجميع تعب ولا نريد مزيداً من الخيبات. أتمنى أن يسود السلام وينال كل متورط في جرائم داعش جزاءه العادل”.
وتضيف المرأة الرقاوية إن هناك حاجة ماسة لإعادة تأهيل المدارس. فمعظمها باتت ثكنات عسكرية للتنظيم الإرهابي، والأطفال محرمون من التعليم منذ سيطرة التنظيم، إذ أغلق التنظيم كل المدارس النظامية. لدي حفيدان في سن الدراسة، مع ذلك منذ عامين لم يكملا تحصيلهما”. وتأمل مريم أن يكون مجلس الرقة المدني نشطاً “فالمدينة محطمة والناس متعبون. الخدمات ستعيد الأمل للسكان”. وتضيف أنها سمعت بدعم قوي من التحالف الدولي لإعادة إعمار المدينة، وهذا الأمر يزيد من جرعة التفاؤل.
تبتسم مريم حين تسمع سؤال ما الذي يمكن أن تقدمه للرقة بعد التحرير “العودة إلى المدينة أفضل ما يمكنني القيام به. لن أغادر إلى مدينة أخرى ولن أصبح لاجئة. سنتحمل بعض الإرهاق حتى تستأنف الخدمات وتعود الحياة إلى المدينة”.
في مكان إقامتها في قرية حاوي الهوى اشترت مريم بعد نقلها مع عائلتها إلى هناك تشكيلة من الملابس التقليدية التي افتقدتها طيلة حكم داعش. بإمكانها أن تلف المنديل حول رأسها وأن يظهر الوشم التراثي على وجهها المكشوف كعادة نساء الرقة. وتقول إنه في إحدى المرات حين كانت في الرقة خرج حفيداها من المنزل في غفلة منها. ولخشيتها عليهما خرجت وراءهما دون أن تضع الخمار الذي يغطي وجهها بالكامل وفق قوانين داعش. فنالت العقاب الفوري حين ضبطتها إحدى نساء “جهاز الحسبة”. وكونها امرأة متقدمة في السنة فإن العقوبة اقتصرت حينها على صفعها في الشارع وإجبارها على العودة إلى منزلها!
بأمثلتها البسيطة التي تطرحها يظهر فرق شاسع بين حياتها السابقة والحالية. فرغم أنها في منزل متواضع وإمكانياتهم المادية ليست جيدة إلا أن الأمور لا تقاس دائماً وفق المنظور المادي: “هناك مكان يمكن العيش فيه ومكان لا يمكن العيش فيه”، توضح مريم.
لا تشعر مريم بالغربة في مكان إقامتها الجديد. وما يخفف عنها أكثر في هذه الناحية أنها تعد العدّة للعودة إلى مدينتها للاحتفال بنهاية أكثر حقبة سوداء عاشتها خلال حياتها في ظل داعش.