نساء نجون من داعش

تعرفت الشابة السورية “وداد” على زميلها “تمّام” في جامعة الفرات بدير الزور قبيل اندلاع الأزمة السورية بعام واحد. واتاحت دراستهما معاً في قسم اللغة العربية إلى لقاءات متكررة نمت خلالها علاقة عاطفية بين الفتاة والشاب، تطورت هذه العلاقة في ظروف لم تعهدها المنطقة: فبين 2011 و 2014 تناوبت ثلاثة قوى متصارعة على حكم محافظة دير الزور، النظام وجبهة النصرة وأخيراً داعش.

في بداية العام 2011 تقدم تمام لخطبة زميلته وداد، على أن يتم الزواج بعد تخرجهما في الصيف، إلا أن قصة الحب الطويلة عصفت بها السياسة وذهبت إلى دهاليز الحرب القاتلة. حين خرجت التظاهرات ضد النظام السوري في دير الزور كان كل من تمام ووداد في الصفوف الأولى للاحتجاجات، ما جعل من اعتقال تمام لاحقاً صيداً ثميناً للأمن، ولم يخرج إلا مشلولاً بعد ستة شهور من التعذيب.

ورغم إصابة الشاب، إلا انه وخطيبته قررا الزواج، ذلك أن الأطباء قالوا إن مثل هذا النوع من الشلل يحتاج إلى علاج فيزيائي فقط وسرعان ما يعود إلى طبيعته. وبالفعل تزوجا وأنجبا طفلة بعد عام اتفقا على تسميتها “سوريا”.

احتدت الأزمة في سوريا، ودخلت الفصائل المعارضة مدينة دير الزور، وكان من سوء حظ تمام ووداد أن منزلهما على خط النار ليتم تهجيرهم وابنتهم إلى مدينة موحسن في ريف دير الزور.

في موحسن، استمالت الفصائل تمّام وبدأ يعمل معها في الجانب الإعلامي، بحكم تخرجه من كلية الآداب قسم اللغة العربية، كانت زوجته ترفض هذا العمل لما له من مخاوف مستقبلية.

في العام 2014 ازدادت الأوضاع سوءاً مع وقوع معظم دير الزور تحت سيطرة تنظيم داعش، كان ذلك الصيف أشبه بيوم قيامة، جثث تنتشر في الشوارع، اعتقالات عنف إرهاب، حالة من الجنون استبدت بريف دير الزور. تمكن تمام من الهروب خارج المحافظة أثناء حملة قطع الرؤوس التي شنهها تنظيم داعش على المعارضين، وبقيت زوجته وابنته في “موحسن”. قطع مئات الكيلومترات من دير الزور إلى الرقة، تارة بعربات مارة، وتارة مشيا على الأقدام، وانقطعت كل وسائل الاتصال مع زوجته. وأخيراً وصل إلى مدينة إدلب وكان ما يزال عاجزاً عن التواصل مع زوجته، حتى أبلغه أحد الفارين من مدينة موحسن أن تنظيم داعش اعتقل زوجته وابنته بحكم أنها زوجة “المرتد”.

مكثت وداد في إحدى سجون التنظيم الإرهابي قرابة الشهر، ووقعت تحت رحمة سجانات داعش، ولتبدأ حفلة التعذيب المؤلمة من أجل دفعها إلى الاعتراف بمكان زوجها تمّام. عزلوا ابنتها الرضيعة عنها لمدة أسبوع في زنزانة مجاورة لكي تسمع بكاء ابنتها التي لم تتلق سوى تغذية تبقيها على قيد الحياة وتضمن استمرار بكائها. فالطفلة “يجب ألا تكون تحت تربيتك الأم الكافرة” بحسب إحدى سجانات داعش.

تعرضت وداد في هذه الأثناء للجلد حين وجدت سجانات داعش بقايا لمادة “المناكير” على إحدى الأظافر. وعقوبة تزيين الاصبع بهذه الطريقة يتراوح بين 20 إلى 40 جلدة، أو اختيار عقوبة العض عبر آلة حديدية ذات أسنان حادة يتم إطباقها على الكف أو الثدي. وتسبب جروحاً عميقة. من حسن حظها ان الجلد كان نصيبها، إذ أنها بعد أيام فقط جيئ بامرأة إلى الزنزانة التي تقع أسفل قبو لمعاقبتها على صبغ شعرها وظهور خصل منه أثناء سيرها في الشارع. قامت واحدة من العاملات في “جهاز الحسبة النسائية” بتوقيفها وإحضارها إلى السجن، ثم قص شعرها بطريقة شنيعة.

كانت المرأة صاحبة الشعر جريئة ووجهت عدة شتائم للسجانات رداً على إذلالها، فكان نصيبها اختيار عقوبة: الجلد أم العض؟. اعتقدت وداد ومثلها المرأة الأخرى أن العض أهون، واعتقدن أن إحدى السجانات ستقوم بالعض بأسنانها على يد المرأة كنوع من العقاب.

تروي وداد كيف أنها لم تسمع صراخاً في حياتها كالذي صدر من هذه المرأة أثناء عقابها بـ”العض”. تحرص السجانات، وغالبيتهن من النساء المنبوذات سابقاً، على ترهيب النزيلات عبر إظهار نتائج التعذيب. حين جاءت المرأة التي نالت العقوبة كانت الدماء تسيل من صدرها عبر فتحات عميقة أحدثتها “العضاضة الحديدية”.

خلال الفترة التي قضتها وداد، شهدت عشرات القصص التي تسببت باعتقال العديد من النساء. من بينها قصة امرأة أحضرها زوجها الداعشي إلى السجن من أجل تأديبها!. روت المرأة حكاية حساسة، ففي إحدى الليالي عاد زوجها من جبهة القتال في صفوف داعش، وكان الوقت متأخراً. شعرت المرأة بدخول زوجها وسمعت “نحنحته” بعد أن فتح باب الدار بالمفتاح، لكنها تظاهرت بالنوم. اندس في الفراش إلى جانبها وبدأ يقترب من جسدها بهدوء ويلفها.. خطر للزوجة أن تتجاوب معه بحسن نية فقامت بتقريب جسدها منه، وهنا كانت الكارثة!.

اتهمها زوجها الداعشي أنها لم تكن مستيقظة حين دخل، فكيف إذاً قامت بتقريب جسدها نحو رجل يتمدد خلفها ومن المفترض أنها لا تعلم من هو؟. انتفض الزوج .. وباغتها باسئلة وهو في حالة هيجان..تسبب بارتباك الزوجة … لينتهي بها الأمر في هذا السجن بسبب حسن نيتها مع زوجها.

كانت الزنزانة التي تقبع فيها وداد متسخة، وكذلك الزنزانات الأخرى، لذا قررت إدارة السجن أن تعمل هذه السجينة على تنظيف كل الزنزانات وبشكل يومي.

بعد شهر أطلق التنظيم سراح وداد وكانت مع ابنتها في حالة نفسية مزرية وانهيار كامل في المعنويات. لكنها حتى هذا الجزء من القصة لا تعرف كيف تتواصل مع زوجها، الذي عبر الحدود التركية واستقر به الحال في مدينة غازي عنتاب التركية. كخطوة أولى صحيحة قررت وداد أن تغادر فورا إلى أي مكان لا يكون فيه تنظيم داعش.. لكن الأمر ليس بهذه السهولة. فقد أصدر التنظيم قراراً بعدم مغادرة أي شخص إلا بأمر “الوالي” . وعندما أغلقت في وجهها الأبواب، حاولت أن تخرج عن طريق التهريب بعد أن دفعت 500 دولار أمريكي، ورغم أنها سلكت طرقاً صحراوية إلا أنها وقعت مجدداً في قبضة التنظيم ودخلت المعتقل أياماً قليلة وتعهدت ألا تعاود الكرة.

نتيجة الهروب عبر طرق التهريب من مدينة موحسن إلى تركيا، تمكن أحدهم من الافلات وإبلاغ زوجها “تمّام” بما حدث لزوجته والأهوال التي شاهدتها في السجن، وبعد مضي ما يقارب خمسة أشهر على الانقطاع تواصل الزوجان وقررا التنسيق مرة أخرى مع أحد المهربين المحترفين لإخراج زوجته وابنته من ريف دير الزور إلى ريف إدلب ومن ثم الانتقال إلى غازي عنتاب حيث يقيم.

كانت التكلفة باهظة من أجل تهريب زوجته وإيصالهم إلى ريف إدلب حيث طلب المهرب ألف دولار، بينما لم يعد تمّام قادراً على الحياة حتى بمفرده في زحام تدفق السوريين إلى مدينة غازي عنتاب.

نجحت المهمة وكان المهرب صادقاً، تمكن من تنفيذ العملية وخرجت وداد وابنتها “سوريا” من مدينة الخوف، دير الزور، ومن ثم سلكا الطريق إلى ريف حلب الغربي، بعد رحلة من العذاب حيث الانتقال من سيارة إلى أخرى واتباع طرق صحراوية. كان وصولهم إلى ريف حلب الغربي بمثابة النجاة من النار، إذ أن كيلومترات بسيطة ستجمعها مع زوجها بعد ما يقارب التسعة أشهر على الفراق المر.

بعد عذابات وآلام على مدى أيام، نجحت وداد في الوصول إلى الريحانية في تركيا على الحدود مع محافظة ادلب. هناك كان زوجها تمام في انتظارها، ولم يضيع وقتاً للراحة حيث انتقلا فوراً إلى غازي عنتاب. شيء ما تغير في تمام. كان قد قرر الهجرة إلى أوروبا، ونفذ خطته بعد أيام قليلة. ترك زوجته وابنته ووعدهما بإرسال طلب لم شمل حالما يصل إلى أوروبا ويحصل على الاقامة.

 اتجه تماما إلى سواحل بودروم التركية. واستدان مبلغاً من المال ليركب قوارب الموت متجهاً إلى اليونان.. لكن الرحلة لم تكتمل، فقد انقلب القارب المطاطي بالمجموعة التي كان من بينها تمام، تاركاً خلفه زوجة في العشرينيات وابنة لم تبلغ من العمر أربع سنوات، الطفلة التي قد يكتب لها في المستقبل النجاة من كابوس الإرهاب والحرب.

 

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك, يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد