قصص رمضانيات: طبيبة نساء داعش

قبل موعد ا فطار الرمضاني بأقل من ساعة تجد أم رامي متسعاً من الوقت للحديث عن رحلتها الشاقة بين سوريا وتركيا. ابنتها “زهرة” التي تبلغ 15 عاماً تنتظر أمام الخيمة وصول وجبة ا فطار في مخيم سليمان شاه الذي يقع في بلدة آقجة قلعة (Akca kale) التركية على الحدود مع سوريا. تتذكر أم رامي السنوات السابقة من حياتها حين كان المطبخ يعج بالحركة قبل نحو 3 ساعات من موعد أذان المغرب. في هذا المخيم تفتقد ضجيج العائلة قبل ا فطار، لكن هذا المكان على الرغم من أنه مخيم مؤقّت إ أنها تشعر بأهم ما كانت تفتقده خ ل سنوات الحرب في سوريا: ا مان والطمأنينة على حياتها وحياة ابنتها.

تمكنت زهرة من استئناف دراستها في المخيم الذي يقيم فيه نحو 30 ألف سوري، غالبيتهم نساء وأطفال. “هي كل ما بقي لي في الحياة”، تقول أم رامي التي فقدت ابنها الوحيد رامي في الحرب فيما توفي زوجها قبل اند ع الثورة بعامين.

تنحدر أم رامي من مدينة الميادين الواقعة على نهر الفرات في محافظة دير الزور. لم تغادر المدينة رغم احتدام القتال فيها نهاية عام 2012، وفقدت ابنها الذي تطوع للقتال في الجيش الحر في قصف عنيف شنه النظام على المدينة انتقاماً من هزيمته. بعد أقل من عام ونصف انقلبت حياة المدينة رأساً على عقب حين اجتاحها مقاتلو تنظيم داعش الذين أرهبوا المدينة بالنداءات عبر مكبرات الصوت خ ل اللحظات ا ولى لسيطرتهم عليها في صيف 2014. ساد الرعب المدينة وتناثرت جثث مقاتلي المعارضة والكثير من أبناء المدينة في حملة إعدامات نفذها التنظيم خ ل ا يام ا ولى. هرب الكثير من السكان تاركين خلفهم كل ما يملكون للنجاة من ا رهاب الذي سيحكم مدينتهم من تلك اللحظة بقبضة من حديد.

لم تكن أمام أم رامي وهي في الـ58 من عمرها أي وسيلة للهروب، وغالبية أقاربها انتقلوا إلى مدن أخرى قبل سيطرة التنظيم على الميادين. وعاشت عاماً كام ً كشاهدة استثنائية: “بحكم مهنتي تمكنت من الدخول إلى بيوت الكثير من مقاتلي داعش. كانت حياتي هناك أشبه با قامة وسط العقارب”. تتذكر أم رامي كيف كانت مهنتها مزدهرة حتى التسعينيات من القرن الماضي، ثم تراجعت مع توسع القطاع الصحي وانكسار بعض المحرمات ا جتماعية. المهنة التي ورثتها هذه المرأة من والدتها هي “القابلة الشعبية”، مهمتها تولي و دة النساء. أنعش تنظيم داعش مهنتها من جديد. فمع انهيار القطاع الطبي في المدينة وهروب ا طباء والممرضات، باتت أم رامي من جديد من أشهر النساء في مهنتها التي يطلق عليها شعبياً اسم “الداية” (Aldaye). أقام تنظيم داعش فص ً صارماً بين الرجال والنساء في كافة مناحي الحياة، بما في ذلك المشافي، إذ ممنوع منعاً باتاً أن يكشف طبيب ذ َكر على امرأة مهما كان الظرف الصحي حرجاً. باتت أم رامي “القابلة” التي تتولى توليد النساء، ومن بينهن زوجات مقاتلي التنظيم.

“كانت خبرتي بمثابة جواز سفر للدخول في عالم الحياة العائلية لعناصر التنظيم”، تقول أم رامي.. يعد عدم توفر الكادر الطبي النسائي واحدة من التحديات الكبيرة التي يعاني منها داعش في المناطق التي يحكمها، وهي مشكلة خلقها بنفسه. المرة ا ولى التي ُطلب منها زيارة منزل مقاتل داعشي كان في بدايات سيطرة التنظيم في صيف 2014 حين طرق بابها عنصر من داعش وطلب مجيئها على الفور إلى منزله الكائن قرب “دوار البكرة”. بعد خمس دقائق من مغادرة الداعشي، توجهت أم رامي إلى المنزل وفق العنوان. “لم تكن حالة و دة، إنما حالة نزيف تواجهه النساء الحوامل في الشهور الث ثة ا ولى عادة”. وتضيف: “هناك العديد من الوصفات الشعبية المستخدمة في المنطقة الشرقية من سوريا لهذه الحا ت، من أشهرها غلي قشر الرمان في الماء واستخدامها كحقنة مهبلية”.

كانت المرأة الحامل من ريف الميادين، تزوجها المقاتل الداعشي قبل خمسة شهور من تعرضها للوعكة الصحية. تقول أم رامي إن المرأة الحامل كانت ما تزال طفلة تتجاوز الـ16 من عمرها، والزواج في هذا العمر كاد يندثر في هذه المنطقة، لكنها انتعشت مرة أخرى مع سيطرة التنظيم على المنطقة. والدافع غير المعلن من وراء موافقة ا هل على الزواج المبكر، كما تقول أم رامي، يعود إلى خوف ا هل من تعرض الفتيات إلى ما يلحق بهم العار، خصوصاً أن أي مقاتل داعشي يقبل أن يتم رفض عرضه للزواج، لذا يحاول ا هالي التأقلم مع الوضع بأسلوب يجعل الزواج إجبارياً كما يحدث في الكثير من الحا ت. رغم الوصفة الطبية إ أنها لم تنجح، فأجهضت الفتاة بعد أسبوع بسبب عدم تحمل جسدها النحيل عملية الحمل. وطبعاً تم إجراء ا جهاض في منزل الداعشي. تقول أم رامي: “لم يسبق أن واجهت خوفاً أثناء و دة النساء كهذا”. وتشرح أنه شيء يمنع مهووساً مضطرباً مثل زوج الفتاة من معاقبتها أو إهانتها إذا توفيت الفتاة.

خ ل فترة تواجدها في الميادين وزيارتها لعشرات المنازل لعناصر التنظيم تكشف أم رامي أن التنظيم ا رهابي يعيش حالة من “رهاب ا دوية” ونتيجة ذلك فقد العشرات من السكان حياتهم بسبب إت ف التنظيم ا دوية التي يكون مصدرها منظمات إغاثية. ففي بداية سيطرتهم على المدينة قاموا بإت ف مخازن ا دوية وتوفي العشرات من المصابين بأمراض مزمنة، مثل السكري والكوليسترول. وبحسب أم رامي فإن هناك قناعة مطلقة لدى التنظيم أن الدول التي تحارب ا رهاب تقوم بتسريب أدوية فاسدة أو مسببة للعقم إلى مناطق سيطرته. وتروي أم رامي عن حادثة توفيت فيها زوجة أحد عناصر التنظيم بسبب رفضه نقل زوجته إلى العيادة النسائية الوحيدة في المدينة، فبعض حا ت الو دة تؤدي إلى الوفاة الحتمية إذا كان وضعية خروج المولود بطريقة عرضية. وفي بعض الحا ت يصاب الطفل بالشلل في حال نجاته. ومنذ سيطرة التنظيم على الميادين أوقف العمل في كافة العيادات النسائية والتوليد بحجة منع ا خت ط بين الذكور وا ناث وهذا ما أدى إلى ارتفاع نسبة الوفيات أثناء الحمل أو الو دة.

وتقول أم رامي إن خبرتها المديدة في مجال توليد النساء يعني أنها قادرة على حل كافة المشك ت النسائية في فترة الحمل والو دة، وهي تعترف أن الطريقة الشعبية في العناية بدائية و تنفع إ في الحا ت

التي تنعدم فيها الوسائل الحديثة. لكنها تضيف: “مقاتلو داعش يستخدمون كل أنواع التقنيات في حياتهم، ويهتمون بجوانب كثيرة قد تبدو مفاجئة، مثل التباهي بالعطور وتبرج المرأة داخل منزلها.. لكن فيما يخص العناية الصحية للنساء فإنهم يفضلون طرق العصور الوسطى”. وتكشف أم رامي عن ظاهرة منتشرة وعاينتها عن قرب، تتعلق بالعنف الجنسي المنزلي الذي يمارسه عناصر داعش مع زوجاتهم والسبايا ا يزيديات. فالنزعة السادية الجنسية منتشرة جداً بين عناصر التنظيم، وهي ظاهرة جديدة على المنطقة بحسب أم رامي التي أمضت حياتها في مهنة تكشف لها الكثير من تفاصيل الحياة الخاصة للنساء. “كنت أخطط للهروب من هذا الجحيم منذ اليوم ا ول” تقول أم رامي التي جنت مبلغاً من المال يتيح لها التفكير بالخ ص النهائي. تمكنت أم رامي من الهرب من الميادين والوصول إلى منطقة الشدادي بعد تحريرها من قوات سوريا الديمقراطية قبل أكثر من عام. ومن هناك انتقلت إلى مدينة تل أبيض لدى أقاربها ثم إلى تركيا عبر بوابة آقجة قلعة الحدودية.

تروي هذه المرأة التي تقارب الستين من عمرها أخطر موقف عرض حياتها للخطر: على حاجز للتنظيم في بلدة مركدة جنوبي الشدادي سألها عنصر من التنظيم عن وجهتها فأجابت وهي ترجح اكتشاف أمرها في ذلك الحين: “مهمة رسمية لجلب أعشاب طبية نادرة من سهول القامشلي”. ثم أخرجت ورقة ممهورة بختم “ديوان الصحة” التابع للتنظيم. “لم أنظر خلفي.. كنت في نقطة فاصلة بين أرض الموت وعلى أبواب الحياة”، تغالب أم رامي دموعها في تذكر تلك اللحظات لترتسم ابتسامة خفيفة على وجهها: “لم أفكر بنفسي قط. كنت أريد النجاة بابنتي ونجحت.. كان مقاتل داعشي على وشك الزواج منها وهي لم تتجاوز الـ15”. تضع زهرة وجبت ْي إفطار وزعتها هيئة اله ل ا حمر التركي لسكان المخيم وتخبر أمها أن جاراتهم في المخيم ينتظرونها ل فطار معاً في ساحة المخيم. تقول أم رامي: “الجو ا جتماعي في المخيم في هذا الشهر الفضيل يشجعني على الصمود..نحن هنا نشكل عائلة جديدة”. تستعد زهرة العام القادم ا لتحاق بالمرحلة الثانوية في دراستها. وتقول إنها تحلم بعد الثانوية أن ينتهي بها المطاف في اسطنبول للدراسة في إحدى جامعاتها العريقة.

 

 

 

 

 

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك, يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبولقراءة المزيد