قصص رمضانيات: حياة جديدة على أنقاض المآسي

لم تتمكن أم أحمد ورضيعها ذو العام الواحد من الوصول معاً إلى مخيم باب السلامة. وصلت وحيدة بعد رحلة عذابات ما زالت تلاحقها بالأحداث المؤلمة التي رافقت رحلة خلاصها من تنظيم داعش. تحاول هذه المرأة الشابة طرد وحدتها على مائدة الإفطار الرمضاني بمشاركة نساء أخريات في المخيم وجبة الإفطار. “في الحياة الطبيعية يكون الإفطار جماعياً لكافة أفراد العائلة إلا من يتغييب بعذر”، تقول أم أحمد متحسرة لبقائها وحيدة في هذا المكان.

يعد مخيم باب السلامة أشهر المخيمات المقامة داخل الأراضي السورية، ويقيم فيه عشرات الآلاف ممن تقطعت بهم السبل، وغالبيتهم من المحافظات الشمالية. ينتظر الآلاف من هؤلاء العودة إلى ديارهم، ويفضلون البقاء قريبين من مناطقهم المدمرة أو التي ما تزال تشهد معارك عنيفة.

أم سالم وهي سيدة أخرى نزحت من ريف مدينة الباب، خلال معارك عملية “درع الفرات” التي أعلن عنها الجيش التركي لطرد تنظيم داعش من “الباب” وريفها في ريف حلب الشمالي، تستذكر بألم حوادث فقد نساء لأطفالهن: “أتحسر على كل مائدة رمضانية يجلس حولها جزء من العائلة بسبب فقدان أفراد في الحرب”. تقيم أم سالم التي تشارك جارتها أم أحمد التحضير للإفطار، منذ عامين في المخيم، وكانت بين من استقبلن أم أحمد حين وصولها: “قبل أن تصل أم أحمد بشهرين احترقت خيمة قريبة منا هنا في المخيم، لم يتمكن أحد من إنقاذ طفلتين قضيتا حرقاً بسبب عدم توفر معدات للتعامل مع الحريق”..

في الوقت الذي تناقلت فيه وكالات الأنباء خبر حريق مخيم باب السلامة، أواخر شهر كانون الأول من العام الماضي، كانت أم أحمد تنطلق مع طفلها الوحيد، بعد أن صفّى جنود داعش  زوجها بتهمة تعامله مع الجيش النظامي، في رحلة نزوح لا تقل مأساةً عن أسباب المغادرة.

“أخذوا زوجي بتهمة التجسس لصالح النظام، كان زوجي يؤدي خدمته العسكرية في مكتب إداري تابع لقوات النظام في حلب بسبب “إعاقته” تقول أم أحمد. حصل زوجها “عبد الرحمن” على حق ما يسمى “الخدمات الثابتة” في الجيش، وهي شكل من الخدمة العسكرية شبه المدنية، الأفضلية فيه لذوي الإعاقات البدنية العاجزين عن القيام بتمارين الرياضة القاسية التي يمر بها الجنود النظاميون.

منذ ولادته بقرية المديونة شمال حلب، عاش “عبد الرحمن” ببصر ضعيف، وتفاقمت حالة الأعصاب البصرية في عينيه مع تقدمه في سنيّ المراهقة والشباب، ليصل إلى سن الخدمة الإلزامية في وضع يرثى له.

“كل الناس في “المديونة” تعرف زوجي، إنه رجل طيب.. كان ذهابه إلى قوات النظام إلزامياً وهذا معروف، لقد تزوجنا قبل التحاقه بالجيش بشهرين، ولم يكن في مستطاع أحد تخيل أن حرباً ستندلع وتستمر كل هذا الوقت..”.

بعد إعدام زوجها على الملأ في ساحة عامة، في شهر أيار من العام 2016 بتهمة التعامل مع قوات النظام، بدأ انهيار كبير في حياة السيدة الشابة، حياتها التي لم تبدأ بعد.

كانت تركيا قد أعلنت نيتها إطلاق عملية “درع الفرات” لاستعادة “الباب” ومناطق أخرى في الشمال السوري من قبضة التنظيم، أوائل العام 2016 ما جعل التنظيم يكثف أعمال الاعتقال التعسفي. زُج بمدنيين كثيرين أبرياء في سجون التنظيم وخضعوا لدورات تأهيل في الشريعة، وتعذيب في السجون، لكن الإعدام كان مصير عبد الرحمن.

تتردد لفظة “الإعدام” متقطّعة على لسان أم أحمد لتسقط في نوبة بكاء.

تتدخل أم سالم في الحديث لتقول ما تعجز أم أحمد عن سرد تفاصيله: “شهدتْ إعدام زوجها بالقوة، تم تجميع المدنيين في الساحة وحرص التنظيم على أن تكون بينهم”. وتواصل: “لم يكن لديها مكان تضع فيه رضيعها الصغير فحملته معها، حين روت لنا كيف كانت في ساحة القرية تشهد الإعدامات ورضيعها على صدرها، لم تكن وحدها من يبكي.. بكينا كلنا من هول ما تعرضت له”.

في شهر تشرين الثاني من العام 2016 كانت القرية قد تحولت إلى محور عمليات هجوم وكر وفر متبادلة، بين قوات النظام المتقدمة من الجنوب وباتجاه “الباب” من جهة، وعناصرالتنظيم في المنطقة، من جهة أخرى، وحصل تبادل للسيطرة على المناطق الصحراوية الممتدة من ريف حلب إلى مدينة الرقة، وفي ذلك الوقت أخذت “أم أحمد” قرارها بالمغادرة.

قبل ذلك كانت فصول أخرى مأساوية من حياتها قد توالت. بعد إعدام زوجها، تخبرنا من وراء اختناقها، “زارني وفد من “الحسبة” بعد انتهاء عدتي”.

فبعد شهور أربعة من وفاة زوجها، وفق الشريعة الإسلامية، يحق للأرملة الظهور إلى العلن، “عرضوا عليّ الزواج من جندي تونسي وافد على التنظيم، وقالوا إنه قادر على إيوائي مع ابني. أخبرتهم بأن أسرة زوجي ميسورة الحال، وأنني مكتفية وقادرة على إطعام طفلي، لكنهم قالوا لي إن أسرة زوجي على علم بالزيارة وإنهم موافقون على زواجي الجديد. صعقت بالأمر. من ناحية أخرى والد زوجي، كان في ذلك الوقت في سجونهم يخضع لما يسمى بالدورة الشرعية، لتعلم أصول منهاج داعش. كان قد اعتقل مع زوجي، وسيق هو أيضا ليشهد إعدام ولده”. وتضيف أم أحمد: “كان عرضهم مغلفاً بالطلب ، لكننا نعلم من حوادث أخرى أن الرفض ممنوع فوافقت على الزواج”.

شاهدت أم أحمد زوجها الجديد لمرتين: “أولاهما كانت ليلة عقد القران. لم أكن قد خرجت من منزلي منذ أكثر من أربعة شهور، وكانت أمطار أول الخريف غزيرة والقصف مركّزاً على التجمع الذي نقيم فيه، وهو مجموعة من الأبنية قروية الطابع في محيط المديونة تعيش فيه أسر النازحين ورؤوس الماشية معاً. دخل علي بطريقة فجة، كان كمن يمارس طقساً غريباً سادياً، ومضى”. لا يبدو التردد على الشابة النضرة، وهي تخبرنا بهذه التفاصيل، كما لو أنها تفاصيل اعتيادية عن التعامل الجنسي مع زوجها المفروض عليها من داعش.

“المرة الثانية؟” نسألها فتجيب: “كانت قبل مقتله، في الشهر نفسه، أواخر أيلول، مر ولم يقل الكثير، أعطاني نقوداً وقال لي إنه مسؤول عن إطعام طفلي، وطلب مني أن أدعو له بالشهادة، وفعلت”.

كان على “أم أحمد” أن تستخلص إذناً بالمغادرة من التنظيم، بعد مقتل زوجها، وهو الأمر الذي بدا لها لا يطاق. لم تنتظر السماح لها بالعبور من خطوط مرور المدنيين التي يقرها التنظيم، ويوفر لها شكلاً ما من الحماية، فكان أن غادرت المدينة في الـ25 من كانون الأول عبر طرق زراعية زرع التنظيم على طولها ألغاماً كثيرة، في محاولة منه لمنع تقدم قوات النظام، أو الجيش الحر المدعوم جواً من تركيا إلى النقاط التي يسيطر عليها هناك.

“كنا خمس نساء ورجلين وما يناهز العشرين طفلاً، نعبر معاً أراضي غير معبدة. لم نمر بشوارع إسفلتية طوال رحلة نزوحنا، كما لم نرى حواجز داعش، ما يعني أننا معرضون لخطر الألغام. كان الرجال الذين يرافقوننا قد تدبروا لي ولطفلي دابة متهالكة تقلنا، ولكنها في لحظة هياج داست على أحد الألغام”.

قضى “أحمد” الذي لم يكد يتم عامه الأول، حين سقط من يد أمه عقب انفجار اللغم، وأصيبت أم أحمد طيرة في منطقة الظهر والحوض، ما تزال إلى الآن  تخضع لمراجعات طبية لمعالجة آثارها. لم تكن لتتمكن من الاحتفاظ بوعيها وكانت قد نزفت كثيراً، ومع اقتراب القافلة من اعزاز، كان الهلال الأحمر التركي قريباً ليتولى العناية بها، وإيصالها إلى “باب السلامة”. وصلت أم أحمد إلى المخيم مع حلول الربيع، في وقت كان جنود التنظيم فيه ينسحبون من “الباب” وريفها.

تفاجئنا أم سالم بأن لدى صديقتها الجديدة أم أحمد رغبة للتطوع في المخيم. تبادر “أم أحمد” لاستلام زمام الحديث من جديد وتقول: “الإصابات في ظهري على وشك الالتئام، وفي الساعات التي كنت أتلقى فيها العلاج وأفيق من غيبوبتي هالني أنني ما زلت على قيد الحياة، هالني أنني نجوت، فرق طبية كهذه يجب أن تكون في كل مكان، ومتطوعون أكثر تعني ناجين أكثر. خسرت أسرتي التي لم يسمح لها العسكر أن تتفتح أمام عيني لكنني ربحت المزيد من الوقت في حياتي. لا أعلم شيئاً عن أسرة زوجي لكنني سأخرجهم من المديونة في أول فرصة، لقد انتهت المعارك هناك، لا يرد أحد على أرقام الهاتف التي أجرب التواصل عبرها، ولكن جيراناً لنا قالوا إنهم شاهدوا والدَي زوجي وأخاه وأسرة أخيه يغادرون باتجاه الباب”.

فقدت ام احمد الكثير في هذه الحرب، لكن مع تلاشي تنظيم داعش وظهور ملامح حياة جديدة في المناطق التي تتحرر من التنظيم، فإن أم أحمد قررت بدء حياة جديدة. هي أيضاً تعتبر نفسها قد تحررت من التنظيم، وستبدأ عملية إعادة بناء نفسها.

 

 

 

 

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك, يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد